الحكاية الثالثة
(عودة الغائب!)
(1)
كل ذرة من جسدها حرفيا تنتفض!
ترتعب منه حتى الموت، شعر بأنفاسها تذهب منها واصبحت على وشك الأغماء فالتفت بوجهه بعيدا باشمئزاز ومن ثم دفع يده عن الجدار ليندفع جسده بأكمله بعيد عنها وغمغم بقرف.
"أعدي الطعام والحمام لي".
رواية حكايات بيت الرحايمة بقلم هالة الشاعر |
ثم دلف إلى غرفة النوم صافق الباب بشدة خلفة
عضت شفتها السفلى، وتساقطت دموعها على الفور ثم انتبهت إلى فستانها الخفيف قصير الأكمام وشعرها المسدل الذي بللها بالكامل ورفعته سريعا، لم يكن من المفترض قدومه بهذا اليوم فهو أحيانا يأتي مرات قليلة بالشهر ليبيت لديها لكنه بات لديها أول البارحة لذلك لم تعتقد بأنها سوف تراه مرة أخرى هذا الاسبوع!.
وضعت ملابسة ومنشفة نظيفة وجهزت المياه الساخنة ومن ثم خرجت سريعا لإعداد أي شيء فهي لم تطهو اليوم.
خرج يطحن دروسه وألقى نظره حانقة عليها مرة أخرى بالمطبخ الصغير الذي يتسع لها بالكاد لكنه كان مفتوح على صالة منزلهم الصغيرة،
انكمشت وجمدت مكانها ولم تستطع الحراك من الخوف، ما إن دلف إلى الحمام حتى أخذت نفس عميق كان يرفض الدخول إلى رئتيها قبل ثوان قليلة، ثم نظرت إلى نفسها فهي لم تشعر بخير أبدا بعد النظرة الحقيرة التي القها عليها توا!.
لتجد أن شعرها الكثيف بلل ثوبها الخفيف فالتصق بها بشدة، وأصبح يصف ملابسها أسفله، جحظت عيونها وأمسكت بثوبها تبعده عن جسدها وهرعت للغرفة وارتدت عباءة واسعه بأكمام طويلة ورفعت شعرها بكعكه علوية فوضوية وشعرها على حالة لازال يقطر برقبتها.
دلف إلى الحمام حانق من ذلك البلاء الذي نزل به منذ سنوات عديدة ولا ينتهي إلى الآن ولا يبدو أنه سوف ينتهي قريبا!.
نظر حوله للحمام الصغير مشبع بالبخار ورائحة صابون الليمون ولمحة من المسك تغمره، وقف أسفل المياه سريعا وهم بفرك جسده بالصابون فلم يجد إلا صابونه الليمون اللعينة ليصرخ بعلو صوته
"اجلبي لي صابونه أخرى غير تلك الغبية!".
انتفضت من مكانها وهرعت تناوله بيد مهتزة صابونه أخرى من فتحة الباب الذي صفقه بوجهها ما إن استلم قطعة الصابون وهرعت هي مرة أخرة إلى المطبخ.
بعد ربع ساعة كان أنتهى من استحمامه وأداء صلاته وجلس إلى طاولة السفرة،
نظر للبيض والبطاطس وبعض أنواع الجبن نظرة سيئة أنه يحب الطعام وهذا موعد الغداء لا العشاء.
شمر عن كميه وغمغم بسخط
"بالطبع الهانم ليست متفرغة للطهو".
ضمت شفتيها بقوة كي لا تبكي، فهذا الشيء سوف يغضبه أكثر وأكثر وهي في غنى عن ذلك الغضب
بل أي بشري على الاطلاق في غنى عن غضب عبد الجبار!.
مزق رغيف الخبز وبدأ بتناول الطعام يلكه بقوة دون شهية حقيقية، وهي الأخرى جلست على مضض في الكرسي المجاور له وبدأت بإقحام لقيمات بسيطة إلى فمها كي لا تثير حنقه فهو يغضب أكثر حين ترفض تناول الطعام معه.
وفي نفس الوقت التواجد حوله كما الجلوس على صفيح ساخن!.
***
لم تسلم بما أخبره بها عوض وتحاملت على نفسها وأرجلها المرتعشة وتوكأت علية
"هلكت يا جدة أنا السبب".
كان عوض على حالة ينوح غير مصدق ما حدث للبقرة لقد كانت بخير فقط قبل أيام قليلة!، قبل أن ينظر لها ويتمنها لنفسه.
كيف حدث هذا؟
كيف حدث؟!.
تمتمت بجمود وهي تستند على ذراعه
"توقف عن البكاء كالنساء وإلا ضربتك!".
صوتها رغم الحزم إلا أنه كان يرتعش
خائفة هذه البقرة نتاج تعب وكد ابراهيم بالأرض وسوف ينهار إذا ما حدث لها شيء!.
"يا رب الطف بنا يا رب استرها معنا يا كريم".
غمغمت الجدة بخوف ممزوج برجاء وطمع في كرم الرحمن
ما إن دلفت للحظيرة حتى علمت على الفور أن البقرة بها خطب ما، لقد راقبتها منذ أن كانت عجل صغير متخيلة جهاز وأغراض ياسمين المتبقية التي سوف تشتريها بثمنها.
جلست إلى أقرب كومه قش مربوطة وذكرت ربها سرا، لقد مرت المصائب على ظهرها أمد الضهر ومع ذلك لم تيأس الجدة إلى اليوم، لم تنهي رسالتها ولن تنهيها إلا بخروج أخر نفس من جسدها جمدت أنظار الجدة التي كانت خائفة منذ ثوان قليلة فقط وضرب قلب عوض بعنف.
ركع إلى جوارها وبكى من جديد
"أنا السبب يا جدة".
نظرت له بحدة لاستمرار تكراره هذه الجملة فأخفى وجهه بذراعة اليمنى يمسح دموعه ويخفي وجهه من الخجل وجسده يهتز لشدة بكاءة
تحدثت من بين أسنانها
"لو ما أظنه صحيح والله لأضربك برأسك يا عوض".
"حسدتها يا جدة.. حسدتها.. تمنيتها لنفسي يا جدة كي أتزوج والله لم أقصدها".
ضربته فوق رأسه بقوة فانتفض ينظر لها
"كم مرة حذرتك من جلد ذاتك مرارا وتكرارا المرة القادمة سوف أخلع نعلي وأمزقه فوق رأسك يا عوض!".
"كانت بخير يا جدة إلى أن تمنيتها أنا".
"هل قصدت السوء لياسمين أو لإبراهيم؟".
"لا والله ما تمنيت لهم إلا الخير".
فانتفضت تزمجر به بحدة حتى كاد أن يسقط أرضا
"إذا كف عن النواح كالنساء واذهب وأجلب أم سعيد لي في الحال".
سألها بلهفة
"هل هناك حل يا جدة الدكتور أكد لي أنها حمى قلاعية؟!".
سألها عوض بعجب فلوحت له بنفاذ صبر بأن يذهب، ركض إلى مطبخ البيت الكبير ودقائق قليلة ودلف إبراهيم مكفهر الوجه.
نظرت الجدة إلى وجهه بحذر وهو يتأمل البقرة بحسرة وعلمت بأنه علم
جاوب تسألها بصوت منهك على ضياع تعبه لأشهر كثيرة من الأموال والرعاية والعناية
"قابلني الطبيب قبل قليل".
جلس بتعب إلى جوار الجدة يريح ساقة المتعبة أمامه
"كل شيء يدبر لا تقلق يا ولدي".
"ونعم بالله".
غمغم بصوت منهك فاقد للحياة.
"هذا قد يؤجل العرس قليلا لكنني سوف اتصرف أعدك".
ربتت على كتفة
"لا تقلق بإذن الله سوف تتعافى أنا أثق برب العباد".
هز رأسه ولم يستطع التحدث بأكثر من ذلك، جاء عوض سريعا وخلفه أم سعيد مثلما أمرت الجدة.
"مريني يا ست الكل".
أملت الجدة طلباتها عليها وركضت الأخرى كي تنفذها.
"قم".
تحدثت الجدة إلى إبراهيم بحزم
"أخلع ثيابك هذه وقم من مكانك ولا تجلس لي مثل الولايا!".
الحزم الشرس هو كل ما لمع بعيون الجدة
أنتبه عوض لها بكليته طالما أن الجدة لديها أمل لابد وأنها مرت بموقف كهذا من قبل وثق بها وولها كل تركيزه
"أخرج البقرة وأربطها بالشجرة اليابسة أمام المنزل وانت".
وأشارت لعوض
"أذهب وألقى بالطعام الموضوع أمامها بعيدا وأجلب المطهرات أو أحرق الحظيرة حتى لا أهتم، المهم أن تنظفها جيدا من هذا الوباء وأخرج باقي الحيوانات بعيدا عن هنا، أخبر عبد العزيز بأن يخرج بهائمه سريعا هيا تحرك من أمامي ولا تقف كالصنم!".
هز رأسه بطاعة وركض ينفذ أوامر الجدة كلها وما إن أتت أم سعيد حتى تناولت الجدة الطبق الكبير منها وبدأت بالتقطيع
"دعيني أفعلها عنك يا ست الكل".
لكن الجدة رفضت أنهي كل من عوض وابراهيم أوامر الجدة وذهبوا لها وهي على حالها تقطع البصل بعناية إلى قطع صغيرة وتمسك بيدها الجعدة السكين وحبه البصل بتسلسل يحفظوه عن ظهر قلب، لم تعترف الجدة يوما بالأدوات الكهربية الحديثة يدها والسكين الحامي كل ما احتاجت إلية تقريبا.
تتمتم بذكر الله وتدعوه والدموع الناتجة عن البصل تسقط بهدوء من بين جفونها الجعدة
خلطت البصل بقطع من الليمون والثوم، ثم جلبت وعاء المياه بعد تطهيره وملئته بمياه نظيفة مضاف إليها الليمون والخل.
"خذ يا ابراهيم يا ولدي رشها بالخل جيدا أنه يميت الوباء بإذن الله وركز على المناطق المصابة ولا تضع الطعام أمامها فقط البصل والثوم كي تتطهر معدتها من الوباء".
هز أبراهيم رأسه بطاعة وقد بدأ يشعر بالأمل يتسرب له.
"وأنت يا عوض صلى على حبيبك المصطفي بنيه الشفاء وتفريج الكرب هيا لا تجلس هكذا".
هز عوض رأسه بطاعة كانت الجدة تعرف مفتاح كل منهم
مفتاح عوض العبادة
ومفتاح ابراهيم العمل
ومفتاح الجدة الثقة واليقين بالله.
***
وقف أمام المرآة يمشط شعرة وهي إلى جواره ولكن تقف بالخلف تحبس الدموع بعيونها بقوة وتضم شفتيها تعض عليها كي لا تبكي.
أنتهى من تعديل هندامه ووضع عطرة وتثبيت ساعة يده الذكية والتفت لها أخيرا وأمسك بكل من ذراعيها.
"رقية يكفي أرجوك كيف لي أن أذهب وأتركك وأنت بهذه الحالة؟!".
انفجرت باكية ولم تعد تستطع التمثيل أو التحكم بانفعالها بعد محاولته الفاشلة بجعلها أفضل.
"ما الذي حدث لك أنزل البلدة كل شهر ولا تبكي بهذا القدر؟!".
شعر بالسخف والغباء حالما تفوه بهذه الجملة الغبية بينما عيونها نطقت بما لم ينطقه لسانها
لم تكن هناك، لم تكن ياسمين هناك الستة أشهر الماضية، أما هذه الزيارة فتختلف عن غيرها اليوم سوف يراها حالما يصل
يراها , يسلم عليها , يتحدث معها
وربما
ربما يوافق الوصي عليها على عقد قرانهم وتصبح زوجته
حلالة
على أسمه
ويستطيع لمسها كيفما يشاء
خنــــــــــاجر!
لا خنجر واحد يغرزون بقلبها
هي المعتدية
هي الدخيلة
لا يسمح لها حتى الشعور بالألم!.
"أسفه أصبحت عاطفية فجأة رافقتك السلامة فقط.. فقط طمئنني عليك حالما تصل .. ط طمئنني أنك بخير وسلامة".
هز رأسه لها وقبل جبينها قبله طويلة
"أيام قليلة وأعود لك كوني بخير اتفقنا".
هزت رأسها بطاعة تشتم أخر عطر له، التف يجر حقيبة يده ومنعت نفسها بأعجوبة بأن تضمه مره أخرى لأنها إن فعلت لن تفلته من يدها وسيزداد بكائها كثيرا.
"رافقتك السلامة بني".
أنحنى وقبل يد حماته بحب
"مريني يا ست الكل".
"عد سالم لنا وبخير ولا نريد شيء آخر".
هز رأسه لها بطاعة ومن ثم همس لها
"انتبهي لها جيداً، كلما حاولت تهدئتها زاد الأمر سوءاً".
نظرت خلفها إلى أبنتها التي تتمسك بالباب الخاص بغرفتها كي لا تسقط
"لا بأس أنتبه أنت لنفسك لا تشغل بالك بنا".
ابتسم لها بعتاب على جملتها وعلى صوته
"أترككم في رعاية الله".
نظر نحو رقية مرة أخيرة ومن ثم أنطلق في طريقة يجر حقيبته، أخذ سيارة أجرة ومنها الى موقف السيارات الخاص بالمدينة وما إن ركب حتى فتح هاتفه واتصل على والدته
"أجل أمي أنا بالطريق الآن".
أستقبل الصوت الحانق
"لم أتأخر أمي انها السابعة صباحا حتى أن السيارة لم تجمع الركاب بعد".
رد عليها بمرارة وما إن أنهت التوبيخ خاصتها حتى أغلق الهاتف وأنزله وهو يشد على شفتيه بغيظ، دلك ما بين جفونه بتعب ثم رفع الهاتف وأتصل بياسمين
"أجل عزيزتي الآن ركبت السيارة".
صوتها المرح ابهج قلبه
"أجل أعدك سوف اراسلك كل نصف ساعة لا تقلقي".
دندنت له بدلال مرة أخرى
"بإذن الله وأنتِ أيضا انتبهي لنفسك".
ارتخت أعصابه قليلا وأمسك الهاتف مرة أخرى يراسل رقية
"أحبك".
ومن ثم أخرج سماعات الهاتف ووصلها بأذنيه وأدار الموسيقي يريد أن يفصل عن كل من بالعالم قليلا.
*
"يكفي.. يا رقيه يكفي.. أتوسل اليك يا بنيتي، سوف يتوقف قلبك من كثرة البكاء يكفي!".
تعتصر مقدمة ملابسها وتبكي بحرقة رهيبة
"نــــــــــار
نــــــار يا أمي تشتعل بصدري، لا أستطيع أخذ أنفاسي أقسم".
شدت ثيابها حتى كادت أن تتمزق منها
"حريق بصدري.. حريق ولا أحد يشعر بي".
دار رأسها ومالت رغم عنها على كتف والدتها توشك على فقدان وعيها غمغمت بإعياء
"ليتني أموت قبل هذا اليوم ليتني أموت فقط".
صرخت والدتها تبكي حال ابنتها
"كفي.. كفي عن فعل ذلك تماسكي قليلا يا رقيه، تماسكي".
هزت رأسها بضعف وجلبت الهاتف خاصتها من السرير وفتحت الصورة لوالدتها
"فقط.. فقط أخبريني كيف لي أن أتنافس معها حتى!.. كيف لي؟!".
صورة لياسمين من إحدى مواقع التواصل وخلفها أرض زراعية وعدة بيوت مترامية الأطراف بعنوان
"Home sweet Home".
عضت الأم شفتيها بقهر على حال ابنتها التي تراقب غريمتها كل يوم
"يا بنيتي حميد يحبك لا تنكري هذا".
انتفضت تصرخ بقهر تلتقط أنفاسها بصعوبة بعد كل كلمة
"وهي.. ماذا عنها؟.. ماذا لو أجبروه على المكوس بالبلدة بعد زواجه؟.. ماذا لو أتت هي للعيش معه؟..".
قاطعتها والدتها
"لقد أخبرك حميد بأن ياسمين سوف تبقي في البلدة وأن والدته لن تقبل بهذا".
أمسكت الهاتف تعتصره بيدها
"أنظري جيدا.. أنظري لهذه.. هل هذا يوحي بشكل فتاة سوف ترضخ لقرار حماتها؟.. ما الذي يجبرها على رؤية زوجها ثلاث أيام بالشهر.. وهو.. هو..".
أرتعش صوتها بقهر بالغ وغمغمت بعذاب
"هو يا أمي هل سوف يستطيع تركها؟ هل سيبتعد عنها ولو لليلة واحدة حتى!".
رمت الهاتف من يدها وضربت على قلبها بقوة بقبضتها
"قلبي يحترق يا أمي قلبي يحترق بقوة سوف تأخذه مني ولن يتبقى لي شيء أبدا، لن يتبقى لي شيء!".
ضمتها والدتها لها بقوة تثنيها عما تفعله وتكبل يديها وتبكي معها بحرقة لا تقل عن حرقتها شيء!.
***
تسير كالأموات عائدة إلى غرفتها بالسابعة والنصف صباحا بعد أن وبختها الجدة بأن تعود لغرفتها، تثاءبت بشدة قبل باب منزلها المجاور لمنزل ضرتها نعمات. أنفتح الباب وخرجت نسيمة، ابتسمت لها بتعب وهزت نسيمة رأسها لها بالكاد قبل أن تراها والدتها، وقبل أن تضع ورد المفتاح ب باب منزلها أنفتح سريعا ووجدت عبد الجبار بوجهها.
اتسعت حدقتها بينما هو عض شفتيه بغيظ بالغ والتفت يلعن عدة أشياء خفيه وتراجعت هي بخوف.
"غبية قسماً بالله غبية وتريدن تكسير رأسك الغبي".
زمجر عبد الجبار بحدة وهو يلوح بيده وكأنها سيف وسوف يشق به رأس ورد بأي لحظه، تراجعت برعب منه وشهقت نسيمة وهي تري هذا الوجه من والدها لم ينتبه لها عبد الجبار أثناء صراخة بورد التي تراجعت إلى أن التصقت بالحائط خلفها.
"هل صرتي أكبر من أخذ الأذن أم ماذا؟ أين كنت؟!".
من بين شفتين مرتعشتين
"بغرفة الجدة".
بهت لردها إلا أنه تذكر شيء وسأل غاضبا مرة أخرى
"لمَ لم تخبريني؟!".
"ذهبت بعد صلاة الفجر ولم أشأ إزعاجك".
خرجت نعمات سريعا على صراحة وغمغمت نسيمة غير مصدقة وحشية والدها
"أبي!".
التفت عبد الجبار ورأي كل من نعمات وأبنته ينظرون له بحدقة متسعة، عدل ياقة جلبابه المنزلي ولوح بذراعة لورد بغضب بأن تدخل، ففرت للداخل وصفق هو باب المنزل خلفها.
"صباح الخير يا بابا".
حاول أن يكون صوته هادئ قدر الإمكان، إلا أنه خرج خشن رغم ذلك ولم تفلح محاولته، أجلى حلقه ونظر إلى داخل منزله وسأل
"أين زين؟".
"أنا هنا أبي".
أتي الصبي راكضا بعد سماعه صوت والده
"هيا يا بابا إلى الروضة تجهز".
أبتسم الصغير له وجلب حقيبته وناولتهم والدتهم علبه بها شطائر خاصة بهم
"أسبقوني للأسفل".
ربت على رأس أولاده وفر الأثنان راكضين، نظر لنعمات التي لا زالت تنظر له بغرابة وداعب وجنتها
"سوف أرسلهم مع ابراهيم تجهزي".
وغمز لها بشقاوة تتناقض مع هيئته المرعبة قبل دقائق، هزت رأسها بعدم فهم وذهبت لفرد شعرها الملفوف في دوامه فوق رأسها وسؤال واحد يتبادر لذهنها كل يوم تقريبا!.
لمَ يبقيها على ذمته طالما يعاملها بهذا الشكل؟!
***
بلهاء
غبية وبلهاء ولا شيء آخر!.
بل هناك
حمقاء وغبية!.
غمغم لنفسه وهو يمشط شعرة المبلول بعد أن خرج من منزل نعمات وأتجه الى بيت أخيه رحمه الله عبد السميع
"جوجو صباح الخير".
ابتسم للنبرة السعيدة التي استقبلته بها ابنه اخيه
"صباحك ورد، هل أجد لديك دواء للبرد؟"،
ثم تنحنح
"ذاك الذي تأتي به من الخارج".
"أجل لدي لحظة واحدة، تعال جوجو".
دخل عبد الجبار بتردد يراقب ياسمين التي دلفت لغرفتها ثم نظر بحزن لشقة أخية الذي فقدوة في أحلك ظروف، فقدوة بعد أن استعادوه بمدة قليلة للغاية فاجعته لم يتعافوا منها إلى الآن!.
الشقة على حالها ياسمين لم تبدل بها شيء وغرفه والديها لم يراها مفتوحة منذ ذلك اليوم المشؤوم.
خرجت ياسمين من غرفتها واستغربت من عبد الجبار
"هل هناك عدوى بالمنزل ف توهه (توحه)طلبت مني هي الأخرى".
امتعض فكه لابد وأنها طلبته من أجل ورد
"لا أعتقد ذلك لا تقلقي".
تحمست واحتضنت كفها الايمن بالأيسر في حركة متلازمة لها عندما تتحمس
"حميد على وصول لا تتأخر اليوم رجاء جوجو".
هز رأسه لها وما إن استدار خارجا
ارتفعت حدقتيه يغمغم لنفسه بمقلتين مقلوبتين و
"وكأنني أهتم لمدلل أمه هذا؟ أتي أم لا.. لا فائدة منه!".
ثم توجه إلى منزل ورد وفتح الباب بغضب، ليجدها منكمشة على نفسها بالسرير وكالعادة صرعت نظراتها حينما رأته، تبغضه وتكرهه وتخشاه وهذا يجعله دائما حانق حولها!.
"تناولي الدواء".
ألقى العلبة على الكمود الصغير الموجود الي جوارها، بالكاد تمكنت من الجلوس وهزت رأسها بطاعة ومدت يد مهتزة شاحبه تتناول العلبة بها، التفت ليجلب لها كوب مياه وهو يلعن ويسب عدة اشياء، منظر قطرات المياه المتساقطة على عنقها يستفزه ويثيره كان يعلم أنها سوف تمرض لو تجاهلت المياه فهي هشة للغاية وسريعة العطب، لذلك نفض الطعام وأخبرها بأنه يتقزز من منظر شعرها المبتل ربما تفهم لكنها غبية لم تفهم والتقطت العدوي وانتهي الأمر.
عاد للغرفة وصفق كوب المياه بحدة الي جوارها حتى انتفضت، لقد كانت تهم بترك السرير من أجل جلب المياه لم تتخيل بأنه سوف يجلبه لها أصلا، نظرت له مصدومة من مساعدته مما استفزه أكثر وأكثر فبصق الكلام بوجهها بغضب.
"تناوليه الآن!".
ابتلعته بصعوبة بالغة حتى ظن أنها سوف تغص به ومن ثم ظلت تنظر للأرض تتمني لو يذهب، شعر بهذا جيدا وامتعض فكة أكثر فخرج من المنزل كله وصفق الباب خلفه حتى ارتعشت أوصلها من الصوت ثم تهاوت بضعف على وسادتها.
تناول هاتفة لقد تأخر كثيرا على الأرض
"هل حملت كل شيء؟، أسف حدث لي ظروف.. لم يعد هناك أي شيء باق!، لا بأس.. لا بأس".
دلف إلى منزل نعمات التي التفتت من المطبخ له بغرابة
"ألا زلت هنا؟!".
"أجل أنتهي تحميل البضاعة ولا شيء أفعله اليوم".
كاذب كان يذهب ويطمئن على الأرض حتى لو فوت موعد التوصيل الخاص بهم.
"جيد إذا خذ محمد".
وناولته الصغير الجالس على ذراعها أثناء تقليبها شيء ما على النار
ذهبت له وقبلت جبينه
"سوف تجلس معي إذا وتنتبه على الصغير لدي الكثير من العمل اليوم، هل أعد لك كوب من الشاي أم من القهوة؟!".
تناول الصغير بحبور وقبل رأسه
"قهوة الصداع يدق برأسي".
غمغم بصوت خشن وهو يضع صغيره على قدمه، بينما نعمات تجعد جبينها على الفور لتلك الملاحظة، ذهبت سريعا للمطبخ وهي تعيد شعرها المبلول للخلف وانتبهت إلى أنها بلا أحمر شفاه، فأخرجته من درج المطبخ سريعا ووضعت على شفتيها ووجنتيها قبل أن يلتفت لها عبد الجبار ومن ثم أخفته، وعادت له بكوب القهوة ومنديل قماشي ومفك!.
"تعال لأربط لك رأسك لقد ظللت بالشمس كثيرا الأيام الماضية لا بد وأن هذا هو سبب صداع الراس خاصتك".
لم يكن السبب بل الأرق الذي أصابه البارحة والنومة الغبية التي اضطر لها في التكور على الأريكة الصغيرة الخاصة بصالة ورد.
قامت بربط المنديل حول رأسه ووضعت المفك بطرفة ولفت المفك عدة مرات باتجاه واحد، بدأ يشعر براحة وخفوت ألم رأسه، تركته هكذا عدة دقائق ثم خلعت المنديل ببطء عنه تأوه عبد الجبار براحة بالغة
"سلمت وسلمت يداك يا أم الاولاد".
قبلت جبينه ونظرت بعيونه لفترة مما جذب انتباهه
"تحبني يا عبد الجبار؟".
سألته بشك ممزوج بألم
"بالطبع فأنت الودود الولود"
غمغمت بلهفة
"حقا يا عبد الجبار؟".
تنهد بألم يحاول إخفاءه عنها بمزاح ساخر
"كيف لي ألا أفعل؟ وأنت نعمات كثيرة ولست نعمة واحدة!".
حاول ممازحتها وتداركت هي نفسها سريعا وربتت بقوة على ظهرة
"حمد لله على سلامتك".
ومن ثم ذهبت من أمامه سريعا وتركته بقلب معصور من الألم!.
غمغم صغيره فقبل رأسه وهمس بصوت مبحوح له
"لا تتزوج اثنان أبدا يا بابا".
***
يتبع ...